احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

رمزية الحمائم و الحيات في التراث المسيحي

 يقول المسيح لأتباعه حسب ما جاء في انجيل متى : " ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب ، فكونوا حكماء كالحيات و بسطاء كالحمام "

و هذه الوصيّة كغيرها من تعاليم الأناجيل المتوفّرة بين أيدينا تحتمل الصدق كما تحتمل الزيف ،  و إن كنّا نشكك في نسبة الحكمة للحيات ، و نستنكر أن يجعل المسيحيون الحيّات و الأفاعي قدوةً لهم ... فهذا النوع من التشبيه لا يتناسب إلا مع المنافقين و الذين يسلكون سبيل الغدر و الإحتيال .. غير إنه لا بأس من أن نجعل هذه الوصية الإنجيلية بدايةً لهذا المقال .. لأن رمزية الحمام و الحيات  كما يبدو لها مكانتها في التراث المسيحي و غيرها من الديانات  ..حتى لتكاد أن تكون شيئاً مزروعاً في اللاوعي الجمعي ... شيئاً مما يسميه كارل يونغ  "النماذج البدئية"...

في مقال للفيلسوف المتصوف عبدالواحد يحيى "رينيه جينو"   بعنوان  "منطق الطير "  .... حيث يحاول البحث في رمزية الطير في الديانات ...  مستهلاً بحثه بالآية القرآنية  : " و ورث سليمان داوود و قال يا أيها الناس عُلِّمنا منطق الطير و أُوتينا من كلِّ شئٍ إن هذا لهو الفضل المبين " .. فيقول إن الطيور ترمز للملائكة  أي بتعبير أدق ترمز إلى أحوال الوجود العليا  ، و يشير كذلك الى أن الصافات في الآية "و الصافات صفاً . فالزاجرات زجراً . فالتاليات ذكراً " هي اشارة حرفية إلى الطيور و لكنها تنطبق رمزياً على "الملائكة".. و هذا ما تشير إليه بعض التفاسير التي تربط  استعمال لفظة "الصافات"  هنا مع  آية أخرى تستعمل فيها نفس اللفظة لوصف الطيور : "و الطير صافات".. و يمكن أن نشير أيضاً الى إن "أرواح الشهداء في أجواف طير خضرٍ لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ..." .. 

... أما في التراث المسيحي فنجد "روح الله " ينزل في شكل حمامة  على المسيح في بداية نبوّته و هو يتعمّد في مياه الأردن :

( فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء ، و إذا السماوات قد انفتحت له ، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة و آتياً عليه  ، و صوتٌ من السماء قائلاً : " هذا هو ابني الذي به سررت" . )

و في العهد القديم نجد صورة مألوفة لحمامة تحمل غصن الزيتون ... و غصن الزيتون بدوره  يرمز للسلام عند الرومان و الأغريق ....  يرسل نوح الحمامة  بعد الطوفان :

"فأتت إليه الحمامة عند المساء ، و إذا ورقة زيتون خضراء في فمها . ففعلم نوحٌ أن المياه قد قلّت عن الأرض "- سفر التكوين

 و رمزية الحمام  عموماً تتعلق بما يتميز به من القرب من بني البشر و كثرة استئناسه و ارتباطه بمعاني السلام والوداعة و كذلك اهتدائه لوطنه من أي مكان في العالم مما يشير إلى الإرتباط الروحي الذي جعل  ابن سينا يستعمله كرمز للنفس في قصيدته العينية :

هبطت إليك من المحل الأرفع     ورقاء ذات تعزز و تمنعٍٍ

و وداعة الحمام هنا  يقابلها افتراس الحيّات و روح الشرّ و الغدر المزروعة فيها ...  مما يجعلها عادة ترمز للشر  و تمثل الشيطان و أحياناً  ترتبط بصورة "الجن" في التراث الإسلامي  .... لما تتميز به من خصائص الإختفاء و الإستتار ...ففي "العهد القديم" نجد الحية المخادعة التي يعمل الشيطان من خلالها لإغواء آدم و اخراجه من الجنّة  ...  و تُوصف هنا بأنّها أحيل الحيوانات :" كانت الحيّة أحيلَ جميع حيوانات البرّيّة التي عملها الرب الإله " .. ثم يلعنها الرب - حسب ما في العهد القديم - فيقول : « لأنّك فعلتِ هذا ، ملعونةٌ أنتِ من جميع البهائم و من جميع وحوش البرّيّة . على بطنكِ تسعين و تراباً تأكلين كلَّ أيام حياتِك " . و هذه اللعنة يشرحها القمص تادرس يعقوب .. و نقتبس هنا من شرحه للعهد القديم  لأن هذا الشرح يبين بشكل أفضل ما تعنيه رمزية الحيات في الفكر المسيحي بشكل أوضح و أبسط :

"إذ حملت الحيّة خداعات إبليس للإنسان نالت اللعنة التي تصيب كل نفس تقبل سمات هذه الحيّة فيها وترتضي أن تكون آلة الحساب عدو الخير وإغراءاته. أما اللعنة فهي: "علي بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك". هكذا كل إنسان يقبل أن يكون أداة للعدو الشرير يصير كالحيّة، يسعى علي بطنه محبًا للأرضيات، ليس له أقدام ترفعه عن التراب، ولا أجنحة تنطلق به فوق الزمنيات. يصير محبًا أن يملأ بطنه بالتراب، ويزحف بجسده لتشبع أحشاؤه مما يشتهيه. هذا ومن جانب آخر فإن من يقبل مشورة الحيّة يشتهي الأرضيات فيصير هو نفسه أرضًا وترابًا، أي يصير مأكلاً للحية التي تزحف لتلتهمه. أما من له أجنحة الروح القدس فيرتفع فوق التراب منطلقًا نحو السماء عينها فلا تقدر الحيّة الزاحفة علي الأرض أن تقترب إليه وتلتهمه.   ويقول القديس أغسطينوس: [يلتصق (الأشرار) بالأرضيات، وإذ هم مولودون من الأرض يفكرون فيها، وبكونهم أرضًا يصيرون طعامًا للحية ]، كما يقول: [إذ يطأ العدو حياتي يجعلها أرضًا فتصير له طعامًا ]، [أتريد ألا تكون مأكلاً للحية؟!‍ لا تكن ترابًا ‍ تجيب: وكيف لا أكون ترابًا؟ إن كنت لا تتذوق الأرضيات .] "

و في هذا الكلام للقمص تادرس نلاحظ المقابلة بين  أجنحة الروح القدس و "الإخلاد الى الأرض" و الإلتصاق بالتراب و الإنغماس في الأرضيات ... و كأننا هنا في صورتين متقابلتين لرمزية الحيات و رمزية الطيور ...على اعتبار أنهما يعبران عن صورة الإرتباط بالأرضيات .. أو الإرتباط بالسماويات ...

يذكر القمص تادرس بعد ذلك ان الحيّة تمثل إبليس نفسه... الذي دُعي "الحيّة القديمة" في سفر الرؤيا 20: 2... " فقبض على التنين ، الحيّة القديمة ، الذي هو إبليس و الشيطان "و كذلك في نفس السفر " فطُرح التنينُ العظيم ، الحية القديمة المدعو إبليس و الشيطان ، الذي يضلُّ العالم كله ، طُرح إلى الأرض ، و طُرحت معه ملائكته "

و لكن كيف يأمر المسيح أصحابه بالتشبه بالحيات اذا كانت تمثل الشيطان ؟!... في الحقيقة انه في صورة أخرى معروفة في المسيحية ترمز الحية الى المسيح نفسه !

و قصّة هذه الصورة تبدأ من العهد القديم  ... حيث يعاقب الرب شعب بني اسرائيل لتذمرهم فيرسل لهم حيّات محرقة  تلدغهم فيموت منهم قوم كثيرون ... ( فأتى الشعب الى موسى و اعتذروا و طلبوا منه الصلاة الى الرب ليرفع عنهم الحيات ... فقال لرب لموسى : " اصنع لك حيّة محرقةً و ضعها على رايةٍ ، فكل من لُدغ و نظر إليها يحيا " ... فصنع موسى حيةً من نحاسٍ و وضعها على الراية ، فكان متى لدغت حيةً إنساناً و نظر الى حيةِ النحاس يحيا ") و هذا يذكّرنا بعصا موسى التي تتحوّل الى حيةٍ تسعى و التي تُفسّر أحياناً بأنها ترمز للمسيح .

كانت الحية النحاسية دليلاً على وجود الله وقوته ، ولكنها أصبحت موضوعا للعبادة ، ولذلك اضطر حزقيا بن آحاز بعد ذلك بقرون إلى سحقها. .. حيث نجد في سفر الملوك : (  و في السنة الثالثة لهوشع بن أيلة ملك إسرائيل مَلكَ حَزَقيّا ملك يهوذا ..... هو أزال المرتفعات و كَسر التماثيل و قطع السواري و سحق حيّة النحاس التي عملها موسى لأن بني اسرائيل كانوا إلى تلك الأيّام يُوقدون لها و دعوها  "نَحُشْتَانَ".)

يشبّه المسيح نفسه بهذه الحيّة النحاسيّة .. بقوله - حسب ما في انجيل يوحنّا - :

(وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ ) و حسب تعبير التفسير التطبيقي للكتاب المقدّس فإنه : " برفع نظرك إلى يسوع مؤمنا فأنه يخلصك من لدغة الخطية القاتلة "

تعتبر هذه الآية من العهد الجديد دليلاً على عقيدة الصلب و الفدا ء ... و لكي لا ننزعها من السياق .. نذكرها بطولها : كما في يوحنا - الإصحاح الثالث -

" الحقَّ الحقَّ أقول لك  : إننا إنما نتكلم بما نعلم و نشهد بما رأينا ، و لستم تقبلون شهادتنا . إن كنتُ قلتُ لكم الأرضيّات و لستم تؤمنون ، فكيف تؤمنون إن قُلت لكم السماويات . و ليس أحدٌ صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ، ابن الإنسان الذي هو في السماء .  و كما رفع موسى الحيّة في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان ،  لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية .  لأنه هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية "

و الغريب في الأمر ان  المسيحيين لم يلتفتوا لما يثيره هذا التشبيه من تساؤلات ... فاليهود عبدوا الحية النحاسية من دون الله .. وضلّوا بهذه العبادة الباطلة حتى قيّض الله لها أحد ملوك يهوذا ليسحقها ... فكيف يدينون عقيدتهم بالإلتفات الى هذا النوع من التشبيه و التركيز عليه !

و على كل حال فهذا التشبيه و بهذا الشكل يعطينا فكرة عمّا تمثله الحيات بصورتها القدسية و صورتها الشريرة ... فالحية "علامة الخلاص" تختلف عن الحية خادمة الشيطان و التي وسوست لآدم فأخرجته من الجنة ... و هذه الإزدواجية معروفة عنها في أغلب الديانات القديمة ... ففي حين تمثل رمزاً للشيطان أو إله الشر ... نجدها في رمز الثعبان المقدس المشهور في عالم الصيدلة  الذي يمثل "اسكليبيوس" اله الطب و الشفاء لدى الأغريق ..

و الأهم من ذلك كله ... و الذي يعود بنا الى نقطتنا الأولى في هذا المقال ... الإله المعروف لدى الآزتك و في أمريكا اللاتينية "كواتزكواتل" ... هذا الإله السئ الذكر و الذي جرّ المصائب على عابديه كان يمثل "ثعباناً مجنحاً"... أي شيئاً يجمع بين الطائر و الثعبان ..!

كوازكواتل

قد يحدث في بعض الأحيان أن تحلم بشئ ما من الحوادث المستقبلية ... كما يحصل لكل البشر ... فليس المؤمنون فقط هم من تتحقق أحلامهم و رؤاهم ... و لكن قد تضل بك الرؤيا فتظنها بشرى سارّة فتنقلب شؤماً و مصائباً ... و ما يختلقه البشر في أساطيرهم هو شئ من هذا القبيل ..  فالأساطير أحلام الشعوب .. تكون عادةً غنية بالرموز و الإشارات ... و لكنهم قد يضلّون بها حسب فهمهم ! و في رأيي فإن فهم الشعوب للأضحية قد يكون ناتجاً عن حالة شبيهة بما مرّ به ابراهيم عليه السلام .. فهو رأى أنه سيذبح ابنه .. و لكن الذي تحقق فعلاً هو ذبح الكبش .. الكبش كان بديلاً لإسماعيل (الذبيح) .. اسماعيل الذي في الحقيقة لم يُذبح  .. رغم انه يسمى الذبيح ..  بينما الذي ذُبح حقيقةً هو الكبش ...لم تتحول رؤاه الى ذبيحة بشرية لأن الله كان يعلمه و يسيّره نحو هذه الوجهة .. فرؤاه كنبي و رسول كانت معصومة من أن تنحرف به الى  ممارسة الذبائح البشرية ...

بنفس الطريقة تتحوّل رؤى هذه الشعوب الى شئ واقعي و لكن دون أن تسيّرهم الهداية الربّانية ... فينزلقون الى التفسير الحرفي .. و الفهم التجسيمي  ... فرؤى الذبائح تتحوّل الى ذبائح بشرية و كلّ ما يتبدّى في الأحلام من شخصيّات غريبة تتحول الى آلهة .. فإله الكواتزكواتل لم يكن إلهاً .. و إن كان في حقيقة الأمر شيئاً حقيقياً و واقعاً حصل في ما بعد ... و هذا الإله لم يكن صديقاً و راعياً لهم و ناصراً لهم على أعدائهم كما كانوا يظنون ...فحين حطّت سفن الأمم المسيحيّة على أراضيهم ...  

كانت شعوب الآزتك و ملكها "موكتيزوما" ينتظرون حسب النبؤة الموجودة في أساطيرهم "عودة الكواتزكواتل" قادماً من الشرق ... كانت هناك عدة خصائص متوفّرة في هؤلاء القادمين من الشرق  منها  بياض بشرتهم و استعمالهم للأسلحة النارية و ملابسهم الغريبة مما يغري عقول الهنود البسطاء بربط ذلك بأسطورة الكواتزكواتل .. و فهم أولئك الأسبان المسيحيون  بقيادة "فرناندو كورتيز" عقيدة الهنود .. فأتقنوا الحيلة و المكر و حاولوا اتقان صورة الآلهة ... و حسب  تحليلات بعض المؤرخين فإن الحيلة انطلت بسهولة بسبب اعتقاد الهنود في انهم يمثلون إلههم " كواتزكواتل" أو الثعبان المجنح .. و بالذات اعتقاد مليكهم موكتيزوما بهذه الأسطورة ....  مما عجّل بهزيمتهم رغم كثرة عددهم و سهّل عملية الإبادة لمدينة "مكسيكو" التي يبلغ تعدادها الخمسين ألف نسمة .  و مهماكانت دقة هذا التحليل أو عدمه فأسطورة الثعبان المجنح " كواتزكواتل" التي كانت منتشرة في الحضارات الهندية الأمريكية كما يبدو قد التقت بقدرها و مصيرها في صورة العالم المسيحي الذي يعتبر الحقيقة المعبّرة عنه ، و بغض النظر عمّا  اذا كان المسيحيون يرون صورة الحيّات  سلبية أم ايجابية ، فهي كما قلنا ذات طبيعة ازدواجية  في تراثهم ، تماماً كازدواجيّة المسيح الحقيقي و المسيح الدجال في التراث الإسلامي ، فان الملفت للنظر هو التقاء مكونات و رموز مشتركة من حضارتين مختلفتين  بعد  أحقاب زمنية من عشرات الآلاف من السنين من الإنقطاع و عدم التواصل بين هذه الأجناس البشرية المختلفة ...

 

 

اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق